الفئة : مقال فكري
مدير برنامج الأمن الوطني
أستاذ مشارك
25 نوفمبر 2024
أكد الجيش الإسرائيلي في 17 أكتوبر مقتل يحيى السنوار[i] وهو أحد كبار قادة حماس ومهندس الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر. لعب السنوار دوراً مهماً من الناحية العملية والرمزية، وهو ما أدى إلى زيادة التداعيات الاستراتيجية لاغتياله على الاستقرار التنظيمي لحماس والصراع الإقليمي وعلى مصير أكثر من 100 رهينة ما زالوا محتجزين لدى الحركة.[i] أشعل مقتله الجدل الدائر حول مدى فعالية استراتيجية قطع رأس التنظيم في مكافحة الإرهاب - وما إذا كان القضاء على زعيم مهم من شأنه أن يضعف أو يفكك جماعة صلبة ذات دوافع أيديولوجية مثل حماس.
استراتيجية قطع رأس التنظيم: المفهوم والتوقعات
تعتمد استراتيجية قطع الرأس على النظرية التي تقول بأن إزالة زعيم الجماعة الإرهابية سيؤدي إلى زعزعة استقرار الجماعة وإضعافها. بينما ترى الدول بأن النصر في "الحرب على الإرهاب" يركز على تقليص نفوذ هذه الجماعات وقدراتها العملياتية. ولطالما كان الإرهاب أسلوباً تكتيكياً يستخدمه الضعيف ضد القوي وهو بمثابة استراتيجية وأيديولوجية تمتد لقرون من الزمن وفي ثقافات مختلفة. وغالبًا ما تختار الجماعات التي تتبنى الإرهاب نهجًا سريًا يؤدي إلى مضاعفة الجهود وذلك لقياس قوتها أو تقدمها أو تراجع مستواها. وفي هذا السياق السري، غالبًا ما يظهر رئيس التنظيم كرمز لنضال الجماعة يجسد ثباتها الأيديولوجي وصلابتها.[ii]
كثيرًا ما يُنظر إلى بقاء قائد أو قيادة الجماعة على أنه دليل على نجاح الجماعة وقدرتها على التحمل بينما تشير إزالة القائد إما عن طريق القتل أو الأسر إلى تراجعها الرمزي أو العملي. تعتمد استراتيجية قطع رأس التنظيم على افتراض مفاده أن إزالة الأفراد المهمين من شأنه أن يزعزع استقرار الجماعة ويضعف معنوياتها ويعيق استمراريتها. وتفترض الدول أن عدد القادة الذين يتمتعون بالمهارات اللازمة والالتزام الأيديولوجي محدود؛ وبالتالي فإن استهداف هؤلاء الأفراد سيؤدي إلى استنزاف موارد التنظيم وتفسخه ومن ثم هزيمته في نهاية المطاف. تفيد هذه الاستراتيجية بأن افتقار التنظيم لقائد يوحد صفوفها سيؤدي إلى انخفاض فعاليتها وإضعاف الروح المعنوية لأفرادها وإضعاف قدراتها العملياتية وهو ما يؤدي في النهاية إلى انهيارها.
المكاسب التعبوية والشكوك الاستراتيجية
قتلت قوات الدفاع الإسرائيلية العشرات من قادة حماس المهمين والمعروفين منذ 7 أكتوبر 2023، وكان من أبرزهم القائد العسكري لحركة حماس في غزة محمد ضيف والقائد السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والسنوار. وقد أجبر فقدان هؤلاء -- بالإضافة إلى عدد كبير من القادة الميدانيين -- حماس على التخلي عن تنظيمها شبه العسكري التقليدي وتكتيكاتها وأصبحت جماعة تشبه في عملها حرب العصابات والمقاومة. تمكنت حماس من التسلل إلى المناطق التي تم تطهيرها في السابق إلا أنها بدت غير منسقة وكان تهديدها محدودًا. وهكذا يبدو أن حماس – على الرغم من قدرتها على شن عمليات متفرقة بسيطة إلا أنها غير قادرة على تنسيق عملها وبالتالي أصبح من الممكن السيطرة على تهديداتها لقوات إسرائيل وسكانها. وبالتالي تبدو الاستراتيجية بأنها نجحت على المستوى التعبوي.
أحد الأمثلة الأكثر نجاحًا على استراتيجية قطع رأس التنظيم هو القبض على مؤسس وزعيم الدرب الساطع أبيميل غوزمان، في 1992[iii]. أدى اعتقال غوزمان إلى القضاء على المجموعة بشكل كبير والتي كانت قبل عامين فقط على وشك الإطاحة بحكومة البيرو. وتبين حالات أخرى القيود التي تواجه عملية قطع رأس التنظيم خاصة عندما يتمتع القادة بسلطة رمزية تستمر بعد وفاتهم. إن تعقب وقتل الثوري البوليفي تشي جيفارا في الستينيات لم يقلل من حب الناس له. وظلت صورته حتى بعد عقود من الزمن من اغتياله رمزا عالمياً للسياسة الراديكالية، متجاوزة أي نجاح ملموس حققه خلال حياته. وفي السياق نفسه، كان لمقتل أسامة بن لادن تأثير محدود على العمليات أو الزخم الأيديولوجي للقاعدة بشكل عام. وتوضح هذه الأمثلة كيف تعتمد فعالية استراتيجية قطع رأس التنظيم كاستراتيجية مستقلة على جوانب مثل هيكل المجموعة والأهمية الرمزية للقائد.
مخاطر استهداف التنظيمات القائمة
قد تنجح استراتيجية قطع رأس التنظيم وتحديداً عند استهداف الجماعات الإرهابية القائمة مثل حماس وحزب الله والقاعدة والجيش الجمهوري الإيرلندي. تمتلك هذه التنظيمات هياكل تنظيمية وأنظمة قيادة وخلافة وأنظمة داخلية تم بناؤها على مدى عقود تمكنها من الاستمرار حتى بعد وفاة قائدها الكبير. كما قامت هذه التنظيمات بتشكيل فريق مخضرم يمكنه تولي زمام الأمور وتقليل أي اضطراب. وغالباً ما تحتوي هذه التنظيمات القديمة على فصائل يصعب تغيير مصالحها الاستراتيجية والأيديولوجية، كما أن معدل تغيير القيادة غير منتظم. اشتملت أساليب مكافحة الإرهاب على التخلص من القادة لتغيير الانسجام الداخلي وتخريب سياسة الجماعة وضعضعة وحدتها. تتطلب هذه الإستراتيجية معلومات محددة حول تنظيم المجموعة (ومن سيكون قائدها التالي) وهذه المعلومات من الصعب الحصول عليها. قد يتسبب سوء الفهم لهذه الجماعات تداعيات غير متوقعة مثل إعطاء المجال لظهور قادة أكثر تطرفًا وراديكالية. وقد تقرر الدول في بعض الأحيان أنه من الأفضل الإبقاء على القادة المعروفين بدلاً من المخاطرة بزعزعة استقرار التنظيم بطرق لا يمكن التنبؤ بها.
فمثلاً لم تستهدف الحكومة البريطانية قادة الجيش الجمهوري الإيرلندي جيري آدامز ومارتن ماكجينيس وذلك لأنها تعلم بأنهم أشخاص يمكنهم التواصل معهم والتفاوض معهم بانتظام. ودافعت المملكة المتحدة في بعض الأحيان عنهم ضد جماعات معادية وذلك تقديرًا للوضوح والاستقرار الذي ساهموا في تحقيقه. وتعكس ديناميكية "الشيطان الذي تعرفه" حقيقة مفادها أن قطع رأس التنظيم ليس خيارًا جيداً أبدًا وخاصة إذا كان سيخلق قوى جديدة قد تكون متطرفة أو لا يمكن السيطرة عليها داخل التنظيم بعد الإطاحة بقائدها.
وتعد الولايات المتحدة وإسرائيل من بين الدول الأكثر استخداماً لأسلوب قطع رأس التنظيم، ولكن نتائجه متفاوتة. حيث نجحت سياسة قطع رأس التنظيم من الناحية التعبوية: أدى مقتل صانع القنابل في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إبراهيم العسيري في عام 2017 إلى تدمير قدرة الجماعة على صنع القنابل. وفي العراق وأفغانستان، شهدت القوات الأمريكية انخفاضًا مؤقتاً في عنف المتمردين المحليين بعد أن قامت بتصفية أفرادها الرئيسيين. إلا أنه وعلى الرغم من هذه المزايا التعبوية إلا أن الحرب لم تنته بنصر مؤزر، وهذا يدل على أوجه القصور لاستراتيجية قطع رأس التنظيم. هذا الأسلوب المعروف باسم أسلوب "Whack-a-Mole"، قد أعطى أهمية لتصفية القادة على الأهداف السياسية أو الدبلوماسية، مما أدى إلى تداول السلطة دون نهاية مؤكدة وواضحة للصراع.
وبالمثل، ساعدت التجربة الإسرائيلية في تسليط الضوء على إمكانات وأوجه القصور لعملية قطع رأس التنظيم. فمثلاً أدى إعدام المدير المالي لتنظيم داعش أبو سياف، في عام 2015، إلى تقويض الأنظمة المالية للتنظيم. ولكن مثل هذه القرارات تقلص من الكفاءة التشغيلية للتنظيمات على المدى القصير وليس إخفاقها أو استمراريتها السياسية على المدى الطويل. كما سعت إسرائيل من خلال طريقة معاملتها لقيادة حماس قبل هجوم 7 أكتوبر لتشويه سمعة المقاومة المسلحة على أمل أن تكون حماس المهزومة والمحطمة غير قادرة على شن أي هجوم.
احتمالات التطرف والتشظي
إن استهداف وقتل يحيى السنوار هو استمرار لسياسة إسرائيل لمكافحة الإرهاب طويلة الأمد والتي تتمثل في زعزعة استقرار التنظيمات الإرهابية من خلال استهداف قادتها. وأثبت التاريخ أن استراتيجية قطع رأس التنظيم مهما كانت مدمرة قد تؤدي إلى عواقب غير مقصودة. إن منهجية قطع رأس التنظيمات يهدد بتعزيز الانقسامات بين الفصائل وإطلاق العنان للعناصر المتطرفة.[ii] قد تؤدي وفاة السنوار إلى شل حركة حماس بشكل مؤقت فقط، بينما تجعل أي مفاوضات مستقبلية أكثر صعوبة بسبب التشظي داخل التنظيم. وقد تخدم استراتيجية قطع الرأس بعض الأهداف التعبوية المباشرة على أرض ولكنها قد تقضي أيضًا على أي فرصة لتحقيق الاستقرار والسلام على المدى الطويل.
وقد يكون استهداف أبو جهاد وهو أحد كبار القادة العسكريين في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1988 أدى إلى وقف بعض الإجراءات المباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية وتأجيج الصراع الداخلي وتقويض قدراتها التفاوضية.[iv] إلا أنه أدى إلى تفتيت التنظيم وتأجيج الفصائل المسلحة وأوصد الباب أمام أي إمكانية لإجراء المفاوضات. وبالمثل قد تكون إزالة السنوار من الميدان قد فتحت الباب أمام التطرف وشجعت أولئك الذين يرفضون التفاوض ويفضلون الحرب من خلال تمهيد الطريق لصعود جيل جديد من القادة لا يتمتعون بأي رغبة في التفاوض.
ويكشف موت السنوار أيضًا عن نقاط ضعف لدى حماس تسمى بـ "القادة الذين يقطنون الفنادق،" وهم شخصيات مرموقة تعيش خارج غزة في أمان نوعاُ ما في الدوحة وبيروت. قد يجد هؤلاء المسؤولون صعوبة في إظهار قوتهم وسلطتهم في أعين المقاتلين والمواطنين الذين يعيشون في غزة. ويفتقر "القادة الذين يقطنون الفنادق" إلى السلطة التي يتمتع بها السنوار ورؤيته للأمور المحلية، لذا ليس من الواضح ما إذا كان بإمكانهم الادعاء بأنهم يقودون حماس. وكان هذا أشبه بالتفكك الذي طال منظمة التحرير الفلسطينية بعد وفاة أبو جهاد، حيث أدى غياب زعيم قوي إلى تقويض الجهود المبذولة لإظهار الوحدة. وبدون وجود زعيم رمزي، فإن حماس قد تعاني من المزيد من الانقسامات وتفتح الباب أمام المتطرفين لتصعيد أعمال العنف بدلاً من الرضوخ للتسوية.
التقييم الأولي والاستنتاجات الاستراتيجية
من الأهمية بمكان أن ندرك أن حماس كتنظيم لم تصب بأي أذى[v]. وعلى الرغم من تعرضها للضرب والحصار، إلا أنها لا تزال تتمتع بقدرة تشغيلية محدودة، ولا تزال قادرة على الالتفاف حول القادة الباقين على قيد الحياة أو اللاعبين الأقوياء في الخارج. تشير هذه الحقيقة إلى أنه يمكن تأييد سياسة قطع رأس التنظيم بشكل جزئي هنا: اغتيال السنوار يزعزع استقرار القيادة وليس حماس. قد يعتمد نجاح استراتيجية قطع رأس التنظيم في نهاية المطاف على إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين بسلام وعلى قيام الحلول السياسية العامة بمعالجة مصدر الصراع.
لا يكشف مقتل السنوار عن الفوائد المحتملة فحسب، بل يكشف أيضًا عن القيود التي تفرضها سياسة قطع رأس التنظيم كأسلوب لمكافحة الإرهاب. قد يؤدي اغتيال قائد كبير مثل السنوار إلى تآكل وحدة حماس وإلى بث الفوضى في أنظمتها الداخلية، ولكننا لا نعرف كيف سيؤثر ذلك عليها على المدى الطويل. وقد يتم التصدي لمثل هذه التأثيرات من خلال صلابة المجموعة وقدرتها على إعادة تجميع صفوفها وهذا يعني أن استراتيجية قطع رأس التنظيم لن تحقق السلام أبداً.
وتُذكّر قضية يحيى السنوار الدول التي تركز على خيار قطع رأس التنظيم بأن هذا الخيار يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية شاملة ذات مراحل متعددة لمكافحة الإرهاب. قد تسفر هذه الإستراتيجية عن انتصارات رمزية وتعبوية قوية، ولكن الأمن والاستقرار على المدى الطويل يتطلبان التعامل مع القوى السياسية والاجتماعية التي تدعم مثل هذه الجماعات. وعلى الرغم من الفعالية الجزئية لإستراتيجية قطع رأس التنظيم، إلا أنها مجرد خيار واحد لحل لغز مكافحة الإرهاب المتشابك والمعقد.
[i] https://www.theguardian.com/world/2024/oct/17/israeli-military-says-it-may-have-killed-hamas-leader-yahya-sinwar
[ii] Jordan, J. (2019). Hypotheses on Leadership Decapitation. In Leadership Decapitation: Strategic Targeting of Terrorist Organizations (1st ed., pp. 47–61). Stanford University Press. https://doi.org/10.2307/j.ctvqsdmfh.
[iii] https://apps.dtic.mil/sti/citations/ADA515608
[iv] https://english.wafa.ps/Pages/Details/135381
[v] https://www.bbc.com/news/articles/ckrr0e3y29po