المنشورات

من التهميش إلى التيار السائد: قضية الصحة النفسية في الدراسات الأمنية

الفئة : مقال فكري

من التهميش إلى التيار السائد: قضية الصحة النفسية في الدراسات الأمنية
د. كرستيان أليكساندر
د. كرستيان أليكساندر

باحث أول - أستاذ مساعد


04 ديسمبر 2024


عادةً ما يتم مناقشة الصحة النفسية في سياق الرعاية الصحية أو الخدمات الاجتماعية، وليس في مجال الأمن.[i] لقد ركّز مجال الأمن بشكلٍ كبيرٍ على التهديدات الملموسة والفورية مثل الحروب، والإرهاب، والكوارث الطبيعية، والتي يمكن قياسها بسهولة ولها تأثيرات مادية مباشرة.[ii] في المقابل، فإن الصحة النفسية التي تتضمن تأثيرات معقدة وغير مرئية وطويلة الأمد، لا تتناسب بشكل دقيق مع هذا الإطار التقليدي، وقد تم تجاهلها إلى حد كبير في إستراتيجيات الأمن.

إننا نعاني حالياً من أزمة صحة نفسية، وفقاً لدورية الجمعية الطبية الأمريكية JAMA، التي أشارت إلى أن عدد الأشخاص الذين يتلقون رعاية للمشكلات العاطفية قد ارتفع بشكلٍ كبير بنسبة 38% منذ عام 2020.[iii] يمكن أن تُعزى هذه الأزمة إلى عدة عوامل، بما في ذلك التأثير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لاستجابة العالم لجائحة كوفيد-19. كان لإجراءات الحكومات خلال الجائحة، مثل الإغلاقات وإيقاف الاقتصاد العالمي، آثار واسعة النطاق، بما في ذلك العزلة الاجتماعية، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والضبابية العامة. وقد أسفرت هذه العوامل عن أزمة صحة نفسية واسعة النطاق. والآن يلاحظ الخبراء كيف يمكن لهذا الوضع أن يقوض الاستقرار الاجتماعي، والإنتاجية، ونوعية الحياة العامة.[iv]

إعادة تعريف الأمن: دمج الصحة النفسية في الأطر والمفاهيم الأمنية

هناك دعوة متزايدة من بعض الخبراء الأمنيين وصانعي السياسات لدمج الصحة النفسية في أجندة الأمن الصحي العالمي. عندما تُصنف قضايا صحية معينة على أنها تهديدات أمنية وليس تحديات تنموية فحسب، فإنها تُسَيَّس، مما يزيد من الاهتمام الذي تحصل عليه. ويزيد ذلك من إلحاح القضية، ويثير الجدل، ويميل إلى تخصيص المزيد من الموارد لحلولها.[v]

يمثل وباء الإيدز/فيروس نقص المناعة المكتسبة فصلاً محورياً ساهم في أعادة تعريف الصحة العالمية كقضية أمنية. في البداية، تم التعرُّف على الإيدز في أوائل الثمانينيات، وسرعان ما برز كجائحة عالمية، مما أثار قلقاً دولياً، واستدعى إجراءات عاجلة من قطاعات الأمن والصحة والسياسة.

تُركز أجندة الأمن الصحي العالمي مؤخراً على الأمراض المعدية الجديدة والناشئة والمتكررة والأمن البيولوجي.[vi] وفي السنوات الأخيرة، شهدنا تحولًا في كيفية فهم الصحة النفسية ودمجها في سياسات الصحة العامة، بفضل المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية. وتهدف برامج مثل خطة العمل بشأن الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية (2013-2030) ومبادرة منظمة الصحة العالمية الخاصة بالصحة النفسية (2019-2023) إلى توسيع نطاق الحصول على خدمات الصحة النفسية الجيدة، وضمان التغطية الصحية الشاملة، ودمج الرعاية النفسية في أنظمة الرعاية الصحية الأولية. 

الخروج من الظلام [الانتقال إلى حالة من الوعي والانفتاح والقبول]: إزالة وصمة العار عن الصحة النفسية

أحد الأسباب الرئيسية لإهمال الصحة النفسية في المناقشات الأمنية هو وصمة العار المرتبطة بالأمراض النفسية. تاريخياً، كانت الحالات النفسية تُفهم بشكلٍ خاطئٍ وحتى يُخشى منها. وقد أدت هذه الوصمة إلى التمييز ضد من يعانون من مشكلات الصحة النفسية، مما دفع بهذه القضايا إلى التهميش في الخطاب العام والسياسي.[vii] إن النظرة المجتمعية إلى الصحة النفسية كضعف شخصي بدلاً من قضية طبية قد أعاق بشكلٍ كبيرٍ الاعتراف بها كقضية صحة وسلامة عامة.

تتغير نظرة المجتمع نحو الصحة النفسية. يُدرك المزيد من الناس الآن أن للصحة النفسية تأثيراً كبيراً على نتائج الصحة العامة، واستقرار المجتمع، والإنتاجية الاقتصادية. كما أن مفهوم الأمن الإنساني يتطور، مع التركيز المتزايد على حماية الحريات الفردية والرفاهية.[viii] وقد ساهمت هذه العوامل في رفع مستوى الصحة النفسية من مجرد مخاوف طبية إلى قضية مجتمعية أوسع.

قدمت التطورات في علم النفس والطب خلال العقود الأخيرة رؤى جديدة حول تعقيدات الاضطرابات النفسية. لقد أسهم عدم وجود إجماع علمي وطبي حول قضايا الصحة النفسية في استبعادها من سياسات الصحة والأمن. ومع عدم وجود فهم واضح لأسباب وآثار وعلاجات الاضطرابات النفسية، عانى صانعو السياسات من البُطىء في إدراك أهميتها في سياق الأمن الوطني والعالمي.[ix]

لعبت الاعتبارات الاقتصادية أيضاً دوراً في تجاهل الصحة النفسية كقضية أمنية. وتتطلب برامج الصحة النفسية استثمارات ضخمة طويلة الأمد في البنية التحتية للرعاية الصحية، وتدريب المُتخصصين المهنيين، والتعليم العام. وفي العديد من المناطق، وخاصة في البلدان ذات الدخل المُنخفض، تكون الموارد محدودة، وتتخذ الأزمات الصحية المادية وأولويات التنمية الاقتصادية الأسبقية.

المستقبل الديموغرافي: جهود مواجهة الشيخوخة السكانية

غالباً ما يكون التقدم في العمر مصحوباً بتدهور في الوظائف المعرفية، مما يؤثر بشكلٍ كبيرٍ على الصحة النفسية للفرد ويؤدي إلى مشاعر الإحباط، وفقدان الاستقلالية، والاكتئاب. وعادةً ما يكون تشخيص حالات مثل الخرف ومرض الزهايمر ومرض باركنسون بمعدلات أعلى بين كبار السن. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تزيد المشاكل الصحية الجسدية مثل الألم المزمن والإعاقات التي تزداد مع تقدم العمر من حدة التوتر والقلق والاكتئاب، مما يزيد من تفاقم الصحة النفسية.

غالباً ما يواجه كبار السن زيادة في العزلة الاجتماعية والوحدة بسبب التغيرات الحياتية الكبيرة مثل فقدان الشريك، أو التقاعد، أو تضاؤل وتقلص الدوائر الاجتماعية. ويمكن أن تؤدي هذه العوامل إلى مشكلات صحة نفسية حادة، بما في ذلك الاكتئاب والقلق. كما يمكن أن يؤدي فقدان الأدوار المجتمعية ومواجهة الموت إلى انخفاض الشعور بالهدف وأزمات الهوية، مما يؤثر على الرفاهية العاطفية.

إن تدهور الحالة الذهنية والبدنية ليس جديداً في حقبتنا الحالية. والجديد في الأمر، مع ذلك، هو التغيرات الديموغرافية في العالم المتقدم، حيث ما زال يعمل حوالي شخص واحد من بين كل أربعة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 65 عاماً فما فوق في سوق العمل في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد، مما يجعل العمال الأكبر سناً الفئة الأسرع نمواً في القوة العاملة. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يتجاوز عدد سكان العالم الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً مليارين، ومع ذلك فإن نسبة صغيرة فقط من الشركات مستعدة لهذا التحوُّل الديموغرافي. ولضمان رفاهية وإنتاجية هذه الشريحة المتزايدة من السكان، من المهم دمج الصحة النفسية في الأطر والمفاهيم الأمنية.

ومع دخول المزيد من المواطنين إلى سن الشيخوخة، يرتفع معدل "نسبة الإعالة"، الذي يعبر عن نسبة المتقاعدين إلى الأفراد في سن العمل، مما يزيد من الضغط على أنظمة التقاعد والبنية التحتية للرعاية الصحية. عادةً ما يتعرَّض كبار السن إلى المزيد من المشاكل الصحية، التي تتطلب في كثير من الأحيان فحوصات واسعة النطاق وعلاجات باهظة الثمن. وهذه التكاليف تضع عبئاً اقتصادياً على القوة العاملة. كما يمكن أن يؤدي التدهور المعرفي والمشكلات النفسية إلى انخفاض الإنتاجية لأولئك الذين يواصلون العمل بعد سن التقاعد المعتاد.[x]

 تُعد قدرة الأنظمة الصحية على تلبية احتياجات السكان المتقدمين في العمر جزءًا ومُكوناً أساسياً من أمن المجتمع. ومع ازدياد انتشار مشاكل الصحة النفسية مع الشيخوخة، يمكن أن تتعرض الأنظمة الصحية التي لا تكون مُعدة ومُجهزة بشكلٍ كافٍ لضغوط كبيرة، مما قد يضعف الأمن الصحي العام للمجتمع، ويُقلل من قدرته على الاستجابة لأزمات صحية أخرى. وقد بدأ الضغط على نظام الرعاية الصحية يظهر جلياً. حالياً، هناك نقص عالمي في العاملين في مجال الرعاية الصحية طويلة الأمد يصل إلى 13.6 مليون عامل، وفقاً لتقرير "عدم ترك أحد خلف الركب [عدم إغفال أحد] في عالم يتقدم في العمر" الصادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة.[xi]

دراسة حالة: مشكلة متزايدة في أرض الشمس المشرقة

بينما تبرُز هذه القضايا بشكلٍ خاصٍ في الولايات المتحدة، فإنه يمكن ملاحظة اتجاهات مماثلة في العديد من الدول الأوروبية الغربية، وكذلك في الدول الآسيوية المتقدمة. على سبيل المثال، يُقدر انتشار الخرف في اليابان بين 8% و10%، وقد أصبحت هذه المسألة محط اهتمامٍ كبيرٍ للخدمات الصحية وصانعي السياسات. إن وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية في اليابان عميقة ومتأصلة، مما يؤدي إلى قلة الأبحاث وجمع البيانات التي يمكن أن تساعد في تحسين الممارسات والسياسات.​ وتؤثر هذه الوصمة ليس فقط على عامة السكان، بل هي حادة بشكلٍ خاصٍ بين كبار السن، الذين قد يعانون بصمت من حالات مثل الاكتئاب والقلق.[xii]

التأثير المجتمعي لهذه التحديات النفسية كبير، حيث تعاني اليابان من واحدة من أعلى معدلات الانتحار بين الدول الصناعية على مر التاريخ. هذا المعدل مرتفع بشكلٍ خاصٍ بين كبار السن، الذين يواجهون غالباً العزلة الاجتماعية إلى جانب مشاكلهم الصحية. تُعتبر الجهود الأخيرة للتعامل مع الصحة النفسية بشكل أكثر انفتاحاً خطوة نحو التخفيف من حدة هذه الأزمة، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل اللازم لتغيير التصورات والإدراك العام وتحسين خدمات الصحة النفسية.

علاوة على ذلك، تُفاقم الأعراف الاجتماعية التي تضغط على الأفراد لمواصلة العمل في سن متقدمة بدون تقديم دعم كافٍ للصحة النفسية من هذه التحديات. تتطور المنهجية المُتبعة في اليابان في مجال الرعاية الصحية النفسية، مع تركيز متزايد على دمج الرعاية النفسية مع خدمات الرعاية الأولية والدعم المجتمعي. ومع ذلك، فإن تنفيذ مثل هذه النماذج المتكاملة للرعاية بطيء ويواجه العديد من العوائق بسبب هيكل النظام الصحي الحالي والتوجهات الثقافية بشأن الصحة النفسية والشيخوخة.​

الخاتمة

يمثل إدخال الصحة النفسية ضمن إطار الأمن توسعاً تدريجياً في مجال الدراسات الأمنية، مما يعكس فهماً أكثر دقة للتهديدات التي لا تكون فقط آنية وملموسة، بل تشمل أيضاً تلك الخفية والنفسية. ومن خلال دمج الصحة النفسية في أطر ومفاهيم الأمن، يمكن للمجتمعات تعبئة الموارد بشكلٍ أفضلٍ، وتُعزيز الاستجابة السياسية، وتطوير تدابير وقائية لمعالجة الجذور الأساسية للضغوط النفسية. لا يُعزز هذا النهج الشمولي فقط أمن الأفراد، بل أيضاً استقرار وجاهزية المجتمعات على نطاقٍ واسع.

إن توسع الدراسات الأمنية لتشمل تهديدات غير تقليدية مثل التغيُّر المناخي، وقضايا النوع الاجتماعي (الجندر)، والصحة يدعو إلى إعادة تعريف مفهوم القضايا الأمنية. وتندرج الصحة النفسية، بتأثيرها العميق على أداء واستقرار المجتمع، بشكلٍ طبيعي ضمن هذا الإطار الموسع.[xiii]

 

  • [i] Public Health Movement (2018) 'Framing of Health as a Security Issue', D6.pdf (phmovement.org)
  • [ii] Stoeva P. ‘Dimensions of Health Security-A Conceptual Analysis.’ Glob Chall. 2020 Jul 28;4(10):1700003. doi: 10.1002/gch2.201700003. PMID: 33033624; PMCID: PMC7533848.
  • [iii] Insel, Thomas, ‘America’s Mental Health Crisis’, December 8, 2023, Pew Trusts, America's Mental Health Crisis | The Pew Charitable Trusts (pewtrusts.org)
  • [iv] Kirk, Jessica (2023) ‘Health’, in: Paul Williams and Matt McDonald eds. Security Studies. An Introduction. 4th edition. Routledge, pp.615-630
  • [v] Hagmann, J., Hegemann, H., & Neal, A. (2018). ‘The Politicisation of Security: Controversy, Mobilisation, Arena Shifting’, European Review of International Studies, 5(3), 3–29. https://www.jstor.org/stable/26593813
  • [vi] Hough, Peter (2021) ‘Health and Security’, in: Peter Hough, Andrew Morgan, Bruce Pilbeam and Wendy Stokes eds., International Security Studies. Theory and Practice. 2nd edition. Routledge, pp. 258-269
  • [vii] Ip Eric C., Cheung D. ‘Global Mental Health Security—Time for Action.’ JAMA Health Forum. 2020;1(6): e200622. doi:10.1001/jamahealthforum.2020.0622 
  • [viii] Ip Eric C., Cheung D. ‘Global Mental Health Security—Time for Action.’ JAMA Health Forum. 2020;1(6): e200622. doi:10.1001/jamahealthforum.2020.0622 
  • [ix] Staglin, Garen (2022). ‘The Decade of Healthy Aging Cannot Ignore Mental Health of Older Workers’, August 4, 2022, Forbes,
  • The Decade of Healthy Aging Cannot Ignore Mental Health of Older Workers (forbes.com)
  • [x] Goidea, Teodora (2021) ‘Why is mental health not a security issue yet? A just securitization of mental health’, Department of Political Science, Kobenhavns Universitet, March 2021
  • https://www.academia.edu/89591915/Why_is_mental_health_not_a_security_issue_yet_A_just_securitization_of_mental_health
  • [xi] United Nations (Department of Social and Economic Affairs) Leaving No One Behind in an Aging World. World Social Report 2023. 2023wsr-chapter5.pdf (un.org)
  • [xii] Hisashi Eguchi, Koji Wada, ‘Mental health of working-age populations in Japan who provide nursing care for a person at home: A cross-sectional analysis’, Journal of Occupational Health, Volume 60, Issue 6, November 2018, Pages 458–466, https://doi.org/10.1539/joh.2017-0295-OA
  • [xiii] Kirk, Jessica (2023) ‘Health’, in: Paul Williams and Matt McDonald eds. Security Studies. An Introduction. 4th edition. Routledge, pp.615-630


من التهميش إلى التيار السائد: قضية الصحة النفسية في الدراسات الأمنية
An error has occurred. This application may no longer respond until reloaded. Reload 🗙